في ذكرى الاربعين للأديب المربّي الراحل يوسف نويهض

جريدة النداء (بقلم سارة نويهض)

في البال أبدًا

السبت 10 كانون الأول 1988

   جدّي، أيّ عاصفة اقتلعتك من وجودنا؟ وأيّ سلطان غيّبك عنّا؟ أربعون يومًا.... مسافة كبيرة من الزمن تفصل بيني وبينك، وكنت أعتقد أنّ لا شيء في الدنيا يقدر أن يغيّبك عنّا.

   غبت يا جدّي فغاب عن عيني جمال الدنيا كلّها... كيف لا... وأنا عندما فتحت عينيّ على الدنيا وبدأت ألفظ كلمة "بابا" لم أجده...

   لم أجد سواك يا جديّ الحبيب.

   حضنتني بمحبّتك وحنانك خمس عشرة سنة بكاملها. وكنت لي الجدّ والأب والمعلّم. ملأت عليّ حياتي كلّها، ولم أشعر باليتم إلّا يوم غبت وتوارى عنّي وجهك المحبّ الرصين.

   وا لهف نفسي عليك. تضمّك ظلمات القبر وأنت الذي تعشّقت النور دومًا.

   وا لهف نفسي على الجوهر الأصيل يستودع الكرى.

   وا لهف نفسي عليك يوم تلاعبت الريح بدوحتك فقوّضت أغصانها، واقتلعت جذورها، فتبدّد الحلم، وأخفق العلم، وانطفأت الشعلة وغاب عن دنيانا وجهك الحبيب.

   غبت يا جدّي فغاب عن دنيانا الأديب اللّبق، والمربّي الكبير، صاحب الرسالة السامية والذي نذر نفسه نصف قرن بكامله لخدمة العلم والتربية.

   أفنيت عمرك بين دفّتي الكتاب، وبين جدران المدارس والجامعات، تصقل العقول، وتهذّب النفوس، وتغرس الفضائل، وتوجّه النشء وتغذّيه بعصارة فكرك وقلبك، لتجعل منه عدّة المستقبل والمواطن السليم.

   حياتك كانت سلسلة من العطاء، ويا لعظمة العمل الصامت، حياة تذوب لتنبثق منها حياة جديدة.

أنت يا جدّي حيّ في نفوس طلابك وإخوانك وأصدقائك.

أنت حيّ في نفوسنا جميعًا بمبادئك ووطنيّتك وعروبتك.

وهذا ما يواسينا ويخفّف مصابنا.

   حسرتنا عليك كبيرة، والفراغ الذي تركته لا يعوّض. فإن بكيتك اليوم في الذكرى الأربعين فإنّما أبكي المحبّة، أبكي الأب، والمعلّم، المرجع، السند الكبير الذي فقدت، ويا لعُظْمِ ما فقدت.

مُرّة ومُؤلمة هذه الذكرى، لأنّني أفتقدك فيها يا جدّي الحبيب.

   إنّها ذكرى غالية وقاسية، أخافها لأنّها تضعف إيماني، وأحبّها لأنّها تردّني إليك، إلى الماضي القريب، يوم كنت بيننا تحنو علينا وترعانا بقلبك الكبير. جدّي إن طمعت بالعيش بعدك فلأنّني بقيّة من بقايا روحك الخالدة، ونفحة من نفحات نفسك الطيّبة الهادئة.

كنت بالنسبة لي كلّ شيء. كنت صفحة ملأى بالعلم تريد أن تعطي وتعلّم. وكنّا نحن صفحات فارغة تريد أن تمتلىء، فرحنا نستنشق، وننهل من معين أدبك وفكرك، معرفة وحكمة لأيّامنا ومستقبلنا، فأشرقت تعاليمك إشراقة الامل، وولَدت في نفوسنا معاني الجدّ والعمل.

كنت يا جدّي الحبيب النبع الذي لا ينضب، والباب الذي لا يوصد قطّ. كنت إنسانًا نبيلًا بكلّ ما تتضمّنه هذه الكلمة من معنى.

لم تسىء بحياتك إلى أحد وقلبك لم يعرف البغض والحقد يومًا. على أنّ الدهر ناصبك العداء، وأساء إليك وقسا عليك، إذ اختطف الموت ولديك الشهيد عماد، وأبي جهاد، وهما في ريعان الشباب، وصبرت يا جدي صبرًا جميلًا وكنت راضيًا بحكم الله. كان همّك أن تراني وأخي وائل نكبر لنملأ عليك حياتك، لكنّ الموت كان أسرع منّا فقسا علينا وحرمنا منك.

ما كان أقصر باعنا من أن نفتديك يا جدّي ولطالما توسّلت إلينا بنظراتك لنخلّصك من أنياب الموت، فحرقت بتوسّلاتك قلوبنا لأنّنا لم نستطع مساعدتك ووقفنا عاجزين أمام قضاء الله.

وإذ بك تغيب عنّا لتبقى ذكراك في قلوبنا وأعيننا، ولتبقى مناقبيّتك وسيرتك المشرقة نبراسًا ينير عتمات دروبنا.

   جدّي الحبيب أنت في البال أبدًا.

                                                سارة نويهض